العفة إصطلاحاً وما يتصل بمعناها
" والإستعفاف هو طلب العفاف وهو الكف عن المحرم الذي حرمه الله - سبحانه وتعالى - والإكتفاء بما حل وإن كان قليلاً ؛ لأن القليل الذي أحلّه الله هو الذي يشبع الغريزة ويطمأِن النفس ولا يحتاج معه العاقل إذا عرف عواقب الأمور الى الزيادة عن هذا الحد المشروع " . في مقابل العفة معنى آخر وهو الخبيئة والدناءة ، فثمة رجل عفيف ورجل دنيئ والعفة لا تقتصر في معناها على جنس دون جنس ، فليست العفة خاصة بالنساء دون الرجال بل إمرأة عفيفة ورجل عفيف وكذا فيما يقابله .
ثم أيضاً فيما يتصل بمعنى العفة أن نعرف طبيعة النفس الإنسانية، فالنفس كما وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض مناحيها ( أن ابن آدم لو كان له واد من ذهب لابتغى ثانياً، ولو كان له واديان لابتغى ثالثاً، ولا يملأ فم ابن آدم الا التراب ) .
فطبيعة النفس البشرية أنها لو تركت لهواها لا تشبع ، فالعفة التي هي إقتصار على القليل الكافي هي أمر فيه نوع من التربية والتهذيب للنفس، أما لو تركت النفس كما تشاء فإنها لا تقتصر على العفة بل تتجاوز الى ما وراءها، فإذن العفة تهذب النفس التي في أصل طبيعتها نهم وشغف لا ينتهي مطلقاً، وإن كان النهم في بعض الجوانب يستحسن كما ورد أيضاً في حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : ( منهومان لا يشبعا طالب علم وطالب دنيا ) .
فطلب العلم أصله صحيح والنهم فيه محبوب، وطلب الدنيا أصله صحيح ولكن النهم فيه غير مرغوب لأنه لا ينتهى الى حد وما يزال الامل بالإنسان حتى يقطعه الأجل ، ولو مُدّ للأنسان لحظة ما في عمره لكان له فيها آمال جديدة يضيفها الى سالف آماله ، فإذن لو تركنا النفس بطبيعتها لما انتهت إلى حد،كالشارب من ماء البحر لا يزيده شرب الماء بملوحته الا الزيادة في العطش ، فإذن لا بد من ضابط ، والضابط ما جاء في شرع الله من قليل نافع كاف حلال يحصل به المقصود ويتحقق به النفع، ومن ثم كان للعفة صلة في معناها بالتوسط والإعتدال، فالعفة عندما تقتصر على شيء وتترك شيء ؛ فإنها تبلغ الوسط الذي لا يبلغ الغاية من مداه ولا يحرم النفس مما تشتهيه وتحتاج إليه، فكانت العفة أيضاً درب من الوسطية ونوع من تحقيق المراد الذي تحتاج إليه النفس من غير إفراط ولا تفريط .
عوامل تحقيق العفة
و هذه العوامل كثيرة وأبوابها متعددة، وحسبنا أن نشير الى الأسس المهمة منها مع تفريع على بعض فروعها .
العامل الأول : الإيمان
فأعظم عاصم من المعاصي وأعظم رادع عن المحرمات، وأعظم مذكر دائم للإنسان يرافقه في سره وعلنه وفي حله وترحاله ، في شهوده وغيبه هو الإيمان بالله - عز وجل - الإيمان الذي يُنشىء مملكة الضمير التي لا تفارق العبد المؤمن فتجعله دائماًً يستحضر أموراً مهمة من أعظمها وأجلها الخوف من الله ، والحياء من الله ، وتذكّر الآخرة .
واستشعار عظمة الله تبعث على الخوف من الله ، وإستشعار نعمة الله تبعث على الحياء من الله ، وإستحضار هول الآخرة يبعث على قمع الشهوة في النفس ودرءها عن تجاوز الحد، ولذلك كانت التربية الإيمانية والزاد الإيماني بأركان الإيمان الستة أعظم ما يقوي العبد على التزام أمر الله ويعينه على المصابرة والإمتناع عما حرم الله وسبحانه وتعالى .
سئل بعض السلف من أهل الإيمان والصلاح والتقى كيف السبيل إلى غض البصر ؟ قال
" علمك بأن نظر الله إليك أسبق من نظرك الى ما حرم عليك "
هل نحن نستحضر مراقبة الله - عز وجل - وإطلاعه علينا، ومعرفته التي أخبرنا بها في كتابه كما قال جل وعلا : { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } .
هل نتحقق بذلك ونستشعره في خفقات قلوبنا وخلجات أفكارنا وتصرفات جوارحنا ؟
أثر عن بعض السلف أنه كان يربي بعض الصغار من بني قرابته، فكان هذا الصغير ينظر إليه عابداً متهجداً ذاكراً تالياً داعياً لله - سبحانه وتعالى - فالتفت إليه ذلك المربي يوماً وقال له :
" إستحضر في قلبك وإن لم تنطق بلسانك أن تقول : الله شاهدي .. الله ناظري .. الله مطلع عليّ ،كلما هممت بهم أو فعلت فعلا فقل ذلك في قلبك، قال : فما زلت أتعود ذلك وأنا صغير السن، فلما كبرت كان ذلك من نعمة الله عليّ ومن عصمة الله لي " .
ونحن نعلم أمثلة كثيرة منها المثل القرآني العظيم الذي سطرته آيات القرآن في سورة كاملة في قصة يوسف - عليه السلام – { وراودته التي هي في بيتها عن نفسه وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك } .
جاء هذا التوجه الذي فيه كل الإغراء والإغواء مع الأمن والإحكام ، فقال يوسف عليه السلام : { معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي } .
ثم اعترفت وقالت : { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين } . فماذا كان جوابه ؟ { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } .
و ذكر ابن القيم في روضة المحبين قصة في عهد عمر - رضي الله عنه - وهي تتعلق بشاب صالح كان عمر - رضي الله عنه - ينظر إليه ويعجب به ويفرح بصلاحه وتقواه ويتفقده إذا غاب ، فرأته إمرأة شابة حسناء فهويته وتعلقت به وطلبت السبيل إليه فاحتالت لها عجوز، قالت : أنا آتيك به ثم جاءت لهذا الشاب وقالت له : إني إمرأة عجوز ، وإن لي شاة لا أستطيع حلبها فلو أعنتني على ذلك لكان لك أجر، قال ابن القيم في سياق القصة : وكانوا أحرص ما يكونون على الأجر ، فذهب معها، ولما دخل البيت لم يرى شاة ، قال : الآن آتيك بها ، فظهرت له المرأة الحسناء فاستعصم عنها وابتعد منها ولزم محراباً يذكر الله - عز وجل - فتعرضت له فلما آيست منه دعت وصاحت ، وقالت : إن هذا هجم علي يبغيني عن نفسي ، فتوافد الناس إليه فضربوه ، فتفقده عمر في اليوم التالي فأوتي إليه به وهو موثوق ، فقال عمر : اللهم لا تخلف ظني فيه ، فقال للفتى أصدقني الخبر فقص عليه القصة فأرسل عمر إلى جيران الفتاة ، ودعى بالعجائز من حولها حتى عرف الغلام تلك العجوز ، فرفع عمر درّته وقال أصدقيني الخبر، فصدقته لأول وهلة ، فقال عمر : " الحمد لله الذي جعل فينا شبيه يوسف " .
هكذا أورد ابن القيم هذه القصة - رحمه الله - والأمر في ذلك كما قلت يطول .
ومن ذلك الحديث الصحيح الذي ورد في النفر الثلاثة الذي آواهم الغار فسقطت صخرة فأغلقت عليهم باب الغار فدعوا بأفضل الأعمال التي تقربوا فيها وأخلصوا فيها لله، فكان من قول أحدهم : اللهم إنه كانت لي ابنة عم وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء ، فأردتها عن نفسها فأبت حتى إذا مرت بها سنون ـ يعني حالة من فقر ، جاءتني في مائة وعشرين ديناراً وتخلّي بيني وبين نفسها فلما تمكنت منها ـ وفي رواية - فلما قعد بين شعبها قالت : اتق الله ولا تفك الخاتم الا بحقه ، قال : فقمت عنها خوفاً من الله عز وجل بعد أن تمكنت منها، فاللهم إن كنت قد عملت هذا العمل اتقاء وجهك ففرج عنا ، فكان هو آخر الثلاثة كما ورد في الحديث .
العامل الثاني : التشريعات
الأحكام التشريعية التي جاء بها الإسلام ، يقول الله عز وجل { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } .
الأحكام التي جاءت في الإسلام تتفق مع فطرة الإنسان ، وتحقق المصالح ، وتمنع المفاسد ، فهي تحقق أعلى المصالح وتدرأ أدنى وأقل المفاسد فضلاً عما هو أكثر منها ، ويمكن أن نسلط الضوء على هذه التشريعات من جوانب ثلاثة :
أولاً : التشريعات الوقائية
وهو متمثل في التشريعات الوقائية ؛ فإن الإسلام حرّم كل الدواعي والطرق والوسائل والمرغبات والمقربات من الحرام ، ومما يحرج العفة ويضيعها ، فحرّم النظر لغير المحرم ولما حرم الله - عز وجل - وفي هذا ما نعلم من قول الله عز وجل : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } .. { قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } .
والنبي - عليه الصلاة والسلام - قال : ( النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ) هذا النظر قد حرمه الله عز وجل .
وحاسة السمع أيضاً لها تأثير، فجاء الشرع أيضاً يضبط أمرها، لأن بشار بن برد وكان من فحول الشعراء وكان أعمى، فكان يقول أبياتاً في الغزل والحب والعشق والغرام فسئل عن ذلك وكيف يصف هذه الاوصاف وهو كفيف البصر فقال :
يا قوم أُذني لبعض الحي عاشقة **** والأذن تعشق قبل العين أحياناً
ولذلك قال الله - عز وجل - في شأن نساء المؤمنين ، وفي شأن أمهات المؤمنين على الخصوص { ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض } .
القول المتأنك المتكسر المتميع له وقع في السمع ، وأثر في القلب ، وإبقاء للشهوة ، وميل إلى المحرّم فمُنع ذلك ، والأنف وحاسة الشم أيضاً ورد فيها حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( أيما إمرأة خرجت متعطرة ليجد الرجال ريحها ما زالت الملائكة تلعنها حتى ترجع ) .
أو كما قال - عليه الصلاة والسلام - وهذه الرائحة أيضاً لأن لها تاثيراً ، بل حتى الصوت قد جاء النهي عنه في قول الله عز وجل : { ولا يضربن بأرجلهن } .
حتى لا يسمع ذلك الصوت الذي يكون في الخلخال فيلفت النظر أو يدعوا إلى الفتنة ونحو ذلك ، ثم اللمس فقد ورد النهي عنه في مصافحة الرجال النساء .
وقد كان هذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث ورد عنه في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع النساء وما مست كفه كف إمرأة لا تحل له قط .
وهذا كله من أسباب الوقاية والضبط، حينئذ كل هذه الحواس لها أثر على القلب، فالعين تنظر لكن القلب يتأثر، والأذن تسمع والقلب يتغير، والأنف يشم والقلب هكذا ، فإذا وضعت هذه الحدود والحواجز كما يقولوا خطوط الدفاع الاولى والثانية والثالثة هذه صمامات الأمان فمن أخذ بها وقي بإذن الله عز وجل .